المواضيع الأخيرة
بحـث
تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء3
صفحة 1 من اصل 1
تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء3
بيان قبائح المنافقين[
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا
كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ(16)**.
ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم
الشنيعة فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ** أي وإِذا قال
لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن
سبيل الله.
قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ
بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض.
{قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ** أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى
للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك، قال البيضاوي: تصوَّروا الفساد بصورة الصلاح،
لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا** ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد:
{أَلا** المنبهة و {إِنَّ** المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم
الشعور فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ** أي
أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا
يحسُون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ** أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا
يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَخلِصوا في
إِيمانكم وطاعتكم لله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ** الهمزة
للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال "صهيب،
وعمار، وبلال" ناقصي العقل والتفكير؟ قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم
فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب
وبلال.
{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا
يَعْلَمُونَ** أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً
بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد
عن الهدى. أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم
ونفاقهم:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا** أي وإذا
رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة {وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ** أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم،
أهلِ الضلالِ والنفاق {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ**
أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ
بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان.
قال تعالى رداً عليهم:
**اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ** أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم
بالنكال، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله **وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ** قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه
مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر
عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف،وإِليه وجهوا كل ما
في القرآن من نظائر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا**ومثل **فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ** فالأول ظلم والثاني
عدل.
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ** أي ويزيدهم -
بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردَدون حيارى، لا يجدون إِلى
المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا
يهتدون سبيلاً.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى** أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى
**فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ** أي ما ربحت صَفْقَتهم في هذه المعاوضةِ والبيع
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ** أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا
سعادة الدارين.
والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح
المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي:
1-
مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يُمَيَّز من غيره لتجنب
الذم.
2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج
الإشاعات الباطلة.
3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في
القلب، الموافق للفعل.
4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود
المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أن المنافقين هم السفهاء
بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من
باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد عادى
الله، وذلك هو السفيه.
ضرب الأمثال
للمنافقين
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19)يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ(20)**.
ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم
الفادحة فقال {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا** أي مثالهم في
نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى
انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ** أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك
النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فهم يتخبطون ولا
يهتدون.
قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في
اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما
أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ
طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في
استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل
دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك
والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل الخير، ولا يعرفون طريق
النجاة.
{صُمٌّ** أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ** أي كالخرس
لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ** أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله
**فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ** أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال.
ثم
ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ
السَّمَاءِ** أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له
الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ** أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف
.
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ** أي
يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم
يظنون أن ذلك ينجيهم {حَذَرَ الْمَوْتِ** أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ** جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم
بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من
كل جانب.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ** أي يقارب
البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة **كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ** أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا** أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن
السير وثبتوا في مكانهم .. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا
صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ
يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في
حفرة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ** أي لو
أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب
بأبصارهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ** أي إِنه تعالى قادر على كل
شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه
بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه
بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم
قادر.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة
"المؤمنين، والكافرين، والمنافقين" وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان
أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على
وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ** وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز
لهم "معجزة القرآن" بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك
والارتياب.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا
كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ(16)**.
ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم
الشنيعة فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ** أي وإِذا قال
لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن
سبيل الله.
قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ
بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض.
{قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ** أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى
للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك، قال البيضاوي: تصوَّروا الفساد بصورة الصلاح،
لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا** ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد:
{أَلا** المنبهة و {إِنَّ** المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم
الشعور فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ** أي
أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا
يحسُون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ** أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا
يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَخلِصوا في
إِيمانكم وطاعتكم لله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ** الهمزة
للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال "صهيب،
وعمار، وبلال" ناقصي العقل والتفكير؟ قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم
فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب
وبلال.
{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا
يَعْلَمُونَ** أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً
بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد
عن الهدى. أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم
ونفاقهم:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا** أي وإذا
رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة {وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ** أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم،
أهلِ الضلالِ والنفاق {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ**
أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ
بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان.
قال تعالى رداً عليهم:
**اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ** أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم
بالنكال، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله **وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ** قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه
مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر
عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف،وإِليه وجهوا كل ما
في القرآن من نظائر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا**ومثل **فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ** فالأول ظلم والثاني
عدل.
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ** أي ويزيدهم -
بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردَدون حيارى، لا يجدون إِلى
المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا
يهتدون سبيلاً.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى** أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى
**فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ** أي ما ربحت صَفْقَتهم في هذه المعاوضةِ والبيع
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ** أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا
سعادة الدارين.
والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح
المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي:
1-
مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يُمَيَّز من غيره لتجنب
الذم.
2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج
الإشاعات الباطلة.
3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في
القلب، الموافق للفعل.
4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود
المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أن المنافقين هم السفهاء
بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من
باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد عادى
الله، وذلك هو السفيه.
ضرب الأمثال
للمنافقين
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19)يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ(20)**.
ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم
الفادحة فقال {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا** أي مثالهم في
نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى
انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ** أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك
النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فهم يتخبطون ولا
يهتدون.
قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في
اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما
أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ
طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في
استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل
دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك
والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل الخير، ولا يعرفون طريق
النجاة.
{صُمٌّ** أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ** أي كالخرس
لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ** أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله
**فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ** أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال.
ثم
ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ
السَّمَاءِ** أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له
الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ** أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف
.
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ** أي
يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم
يظنون أن ذلك ينجيهم {حَذَرَ الْمَوْتِ** أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ** جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم
بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من
كل جانب.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ** أي يقارب
البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة **كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ** أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا** أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن
السير وثبتوا في مكانهم .. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا
صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ
يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في
حفرة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ** أي لو
أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب
بأبصارهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ** أي إِنه تعالى قادر على كل
شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه
بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه
بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم
قادر.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة
"المؤمنين، والكافرين، والمنافقين" وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان
أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على
وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ** وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز
لهم "معجزة القرآن" بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك
والارتياب.
مواضيع مماثلة
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 6
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 8
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 7
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 9
» 1تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... 1
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 8
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 7
» تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... جزء 9
» 1تــفــســيــر ســورة الــبــقــره ... 1
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد فبراير 07, 2010 2:10 pm من طرف المليونير
» ليلة الدخله
الأحد فبراير 07, 2010 1:54 pm من طرف المليونير
» شهر العسل
الأحد فبراير 07, 2010 1:51 pm من طرف المليونير
» تمارين للتخلص من الكرش
الأحد فبراير 07, 2010 1:45 pm من طرف المليونير
» الاسعافات الاوليه
الأحد فبراير 07, 2010 1:33 pm من طرف المليونير
» الزوجه الميثاليه
الأحد فبراير 07, 2010 1:25 pm من طرف المليونير
» الجماع بنيه الانجاب
الأحد فبراير 07, 2010 1:23 pm من طرف المليونير
» اطالت عمليه الجماع
الأحد فبراير 07, 2010 1:19 pm من طرف المليونير
» اثارة الروح قبل الشهوه
الأحد فبراير 07, 2010 1:15 pm من طرف المليونير
» عندما تكون المرة اكثر شهوانيه من الرجل
الأحد فبراير 07, 2010 1:12 pm من طرف المليونير
» الموبايل والاطفال
الأحد فبراير 07, 2010 12:25 pm من طرف زائر
» مواعيد الخصوبه للحمل
الأحد فبراير 07, 2010 12:02 pm من طرف زائر
» اعنايه بالشعر
الأحد فبراير 07, 2010 11:44 am من طرف زائر
» طريقه جماع لطيفه
الأحد فبراير 07, 2010 11:20 am من طرف زائر
» شرين وجدو
الخميس فبراير 04, 2010 12:43 pm من طرف Admin
» حصريا ألبوم شيرين 2009 ***حبيت ***
الخميس فبراير 04, 2010 12:37 pm من طرف Admin
» http://www.m-arab.com/vb/showthread.php?t=49868
الخميس فبراير 04, 2010 11:52 am من طرف امسيه حالمه
» ألبوم لطيفة أتحدى 2
الخميس فبراير 04, 2010 11:44 am من طرف امسيه حالمه
» حصريا و بإنفراد تام : ألبوم العرب و الراب : أحسن أغاني راب عربي صدرت في 2009
الخميس فبراير 04, 2010 11:42 am من طرف امسيه حالمه
» كليب وعد عرقوب - للفنانة رائعة شذى حسون
الخميس فبراير 04, 2010 11:39 am من طرف امسيه حالمه
» بلديات حب يعاكس واحدة
الجمعة يناير 22, 2010 7:53 am من طرف اميره عمر
» ستائر حمام رهييييييييييبة0000
الجمعة يناير 22, 2010 1:54 am من طرف Admin
» روعة واناقة ملك الالوان
الجمعة يناير 22, 2010 1:52 am من طرف Admin
» ديكور رخامي
الجمعة يناير 22, 2010 1:51 am من طرف Admin
» بالعوٍن من هوٍ مگاني صار معشوٍقگ [ديكور]
الجمعة يناير 22, 2010 1:50 am من طرف Admin
» ستايل ايطالي رائع,,
الجمعة يناير 22, 2010 1:49 am من طرف Admin
» عتمةالاسود|بأضاءة|الابيض..عالم رائع من التناقض
الجمعة يناير 22, 2010 1:48 am من طرف Admin
» ديكورات حتعجب البنوتات 100 بالمية
الجمعة يناير 22, 2010 1:47 am من طرف Admin
» كوكتيل ايطالى
الجمعة يناير 22, 2010 1:46 am من طرف Admin
» تصاميم السرميك الجزءالثاني........
الجمعة يناير 22, 2010 1:45 am من طرف Admin
» Bed Room'z
الجمعة يناير 22, 2010 1:43 am من طرف Admin
» جولة مع جديد ايكيا NEW collection 2010
الجمعة يناير 22, 2010 1:42 am من طرف Admin
» اكسسوارات بخيوط الصوف
الجمعة يناير 22, 2010 1:41 am من طرف Admin